منتديات خليجنا واحد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات خليجنا واحد


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
...
  • تذكرني؟

  •  

     في بطن الحوت .. مجموعة قصص

    اذهب الى الأسفل 
    كاتب الموضوعرسالة
    روح القصيد
    الاداره
    روح القصيد


    انثى عدد المساهمات : 225
    تاريخ التسجيل : 28/01/2011

    في بطن الحوت .. مجموعة قصص  Empty
    مُساهمةموضوع: في بطن الحوت .. مجموعة قصص    في بطن الحوت .. مجموعة قصص  Icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 18, 2011 10:33 am

    [color=blue][size=18][center].. أعمى يسدد الهدف ..




    لم أكن جاوزت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أوّل أبنائي..
    ما زلت أذكر تلك الليلة .. بقيت إلى آخر الليل مع الشّلة في إحدى الاستراحات ..
    كانت سهرة مليئة بالكلام الفارغ .. بل بالغيبة والتعليقات المحرمة ..
    كنت أنا الذي أتولى في الغالب إضحاكهم .. وغيبة الناس .. وهم يضحكون ..
    أذكر ليلتها أنّي أضحكتهم كثيراً..
    كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد ..
    بإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه ..
    أجل كنت أسخر من هذا وذاك .. لم يسلم أحد منّي أحد حتى أصحابي ..
    صار بعض الناس يتجنّبني كي يسلم من لساني ..
    أذكر أني تلك الليلة سخرت من أعمى رأيته يتسوّل في السّوق.. والأدهى أنّي وضعت قدمي أمامه فتعثّر وسقط يتلفت برأسه لا يدري ما يقول .. وانطلقت ضحكتي تدوي في السّوق ..
    عدت إلى بيتي متأخراً كالعادة ..
    وجدت زوجتي في انتظاري .. كانت في حالة يرثى لها ..
    قالت بصوت متهدج : راشد .. أين كنتَ ؟
    قلت ساخراً : في المريخ .. عند أصحابي بالطبع ..
    كان الإعياء ظاهراً عليها .. قالت والعبرة تخنقها: راشد… أنا تعبة جداً .. الظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكا ..
    سقطت دمعة صامته على خدها ..
    أحسست أنّي أهملت زوجتي ..
    كان المفروض أن أهتم بها وأقلّل من سهراتي .. خاصة أنّها في شهرها التاسع ..
    حملتها إلى المستشفى بسرعة ..
    دخلت غرفة الولادة .. جعلت تقاسي الآلام ساعات طوال ..
    كنت أنتظر ولادتها بفارغ الصبر .. تعسرت ولادتها .. فانتظرت طويلاً حتى تعبت .. فذهبت إلى البيت ..
    وتركت رقم هاتفي عندهم ليبشروني ..
    بعد ساعة .. اتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم ..
    ذهبت إلى المستشفى فوراً ..
    أول ما رأوني أسأل عن غرفتها ..
    طلبوا منّي مراجعة الطبيبة التي أشرفت على ولادة زوجتي ..
    صرختُ بهم : أيُّ طبيبة ؟! المهم أن أرى ابني سالم ..
    قالوا .. أولاً .. راجع الطبيبة ..
    دخلت على الطبيبة .. كلمتني عن المصائب .. والرضى بالأقدار ..
    ثم قالت : ولدك به تشوه شديد في عينيه ويبدوا أنه فاقد البصر !!
    خفضت رأسي .. وأنا أدافع عبراتي .. تذكّرت ذاك المتسوّل الأعمى .. الذي دفعته في السوق وأضحكت عليه الناس ..
    سبحان الله كما تدين تدان ! بقيت واجماً قليلاً .. لا أدري ماذا أقول .. ثم تذكرت زوجتي وولدي ..
    فشكرت الطبيبة على لطفها .. ومضيت لأرى زوجتي ..
    لم تحزن زوجتي .. كانت مؤمنة بقضاء الله .. راضية .. طالما نصحتني أن أكف عن الاستهزاء بالناس ..
    كانت تردد دائماً .. لا تغتب الناس ..
    خرجنا من المستشفى .. وخرج سالم معنا ..
    في الحقيقة .. لم أكن أهتم به كثيراً..
    اعتبرته غير موجود في المنزل ..
    حين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة لأنام فيها ..
    كانت زوجتي تهتم به كثيراً .. وتحبّه كثيراً ..
    أما أنا فلم أكن أكرهه .. لكني لم أستطع أن أحبّه !
    كبر سالم .. بدأ يحبو .. كانت حبوته غريبة ..
    قارب عمره السنة فبدأ يحاول المشي .. فاكتشفنا أنّه أعرج ..
    أصبح ثقيلاً على نفسي أكثر ..
    أنجبت زوجتي بعده عمر وخالداً ..
    مرّت السنوات .. وكبر سالم .. وكبر أخواه ..
    كنت لا أحب الجلوس في البيت .. دائماً مع أصحابي ..
    في الحقيقة كنت كاللعبة في أيديهم ..
    لم تيأس زوجتي من إصلاحي..
    كانت تدعو لي دائماً بالهداية .. لم تغضب من تصرّفاتي الطائشة ..
    لكنها كانت تحزن كثيراً إذا رأت إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته ..
    كبر سالم .. وكبُر معه همي ..
    لم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحدى المدارس الخاصة بالمعاقين ..
    لم أكن أحس بمرور السنوات .. أيّامي سواء .. عمل ونوم وطعام وسهر ..
    في يوم جمعة ..
    استيقظت الساعة الحادية عشر ظهراً..
    ما يزال الوقت مبكراً بالنسبة لي .. كنت مدعواً إلى وليمة ..
    لبست وتعطّرت وهممت بالخروج ..
    مررت بصالة المنزل .. استوقفني منظر سالم .. كان يبكي بحرقة !
    إنّها المرّة الأولى التي أنتبه فيها إلى سالم يبكي مذ كان طفلاً .. عشر سنوات مضت .. لم ألتفت إليه .. حاولت أن أتجاهله .. فلم أحتمل .. كنت أسمع صوته ينادي أمه وأنا في الغرفة ..
    التفت .. ثم اقتربت منه .. قلت : سالم ! لماذا تبكي ؟!
    حين سمع صوتي توقّف عن البكاء .. فلما شعر بقربي ..
    بدأ يتحسّس ما حوله بيديه الصغيرتين .. ما بِه يا ترى؟!
    اكتشفت أنه يحاول الابتعاد عني !!
    وكأنه يقول : الآن أحسست بي .. أين أنت منذ عشر سنوات ؟!
    تبعته .. كان قد دخل غرفته ..
    رفض أن يخبرني في البداية سبب بكائه ..
    حاولت التلطف معه ..
    بدأ سالم يبين سبب بكائه .. وأنا أستمع إليه وأنتفض .. تدري ما السبب !!
    تأخّر عليه أخوه عمر .. الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد ..
    ولأنها صلاة جمعة .. خاف ألاّ يجد مكاناً في الصف الأوّل ..
    نادى عمر .. ونادى والدته .. ولكن لا مجيب .. فبكى .. أخذت أنظر إلى الدموع تتسرب من عينيه المكفوفتين ..
    لم أستطع أن أتحمل بقية كلامه ..
    وضعت يدي على فمه .. وقلت : لذلك بكيت يا سالم !!..
    قال : نعم ..
    نسيت أصحابي .. ونسيت الوليمة .. وقلت :
    سالم لا تحزن .. هل تعلم من سيذهب بك اليوم إلى المسجد؟ ..
    قال : أكيد عمر .. لكنه يتأخر دائماً ..
    قلت : لا .. بل أنا سأذهب بك ..
    دهش سالم .. لم يصدّق .. ظنّ أنّي أسخر منه .. استعبر ثم بكى ..
    مسحت دموعه بيدي .. وأمسكت يده ..
    أردت أن أوصله بالسيّارة .. رفض قائلاً : المسجد قريب .. أريد أن أخطو إلى المسجد .. - إي والله قال لي ذلك - ..
    لا أذكر متى كانت آخر مرّة دخلت فيها المسجد ..
    لكنها المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف .. والنّدم على ما فرّطته طوال السنوات الماضية ..
    كان المسجد مليئاً بالمصلّين .. إلاّ أنّي وجدت لسالم مكاناً في الصف الأوّل ..
    استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصلى بجانبي .. بل في الحقيقة أنا صليت بجانبه ..
    بعد انتهاء الصلاة طلب منّي سالم مصحفاً ..
    استغربت !! كيف سيقرأ وهو أعمى ؟
    كدت أن أتجاهل طلبه .. لكني جاملته خوفاً من جرح مشاعره .. ناولته المصحف ..
    طلب منّي أن أفتح المصحف على سورة الكهف..
    أخذت أقلب الصفحات تارة .. وأنظر في الفهرس تارة .. حتى وجدتها ..
    أخذ مني المصحف .. ثم وضعه أمامه .. وبدأ في قراءة السورة .. وعيناه مغمضتان ..
    يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة !!
    خجلت من نفسي.. أمسكت مصحفاً ..
    أحسست برعشة في أوصالي.. قرأت .. وقرأت..
    دعوت الله أن يغفر لي ويهديني ..
    لم أستطع الاحتمال .. فبدأت أبكي كالأطفال ..
    كان بعض الناس لا يزال في المسجد يصلي السنة .. خجلت منهم .. فحاولت أن أكتم بكائي .. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ..
    لم أشعر إلاّ بيد صغيرة تتلمس وجهي .. ثم تمسح عنّي دموعي ..
    إنه سالم !! ضممته إلى صدري ..
    نظرت إليه .. قلت في نفسي .. لست أنت الأعمى .. بل أنا الأعمى .. حين انسقت وراء فساق يجرونني إلى النار ..
    عدنا إلى المنزل .. كانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم ..
    لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ..
    من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد ..
    هجرت رفقاء السوء .. وأصبحت لي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد..
    ذقت طعم الإيمان معهم ..
    عرفت منهم أشياء ألهتني عنها الدنيا ..
    لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر ..
    ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر ..
    رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس ..
    أحسست أنّي أكثر قرباً من أسرتي ..
    اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي ..
    الابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم ..
    من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها ..
    حمدت الله كثيراً على نعمه ..
    ذات يوم .. قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدة للدعوة ..
    تردّدت في الذهاب.. استخرت الله .. واستشرت زوجتي ..
    توقعت أنها سترفض .. لكن حدث العكس !
    فرحت كثيراً .. بل شجّعتني ..فلقد كانت تراني في السابق أسافر دون استشارتها فسقاً وفجوراً ..
    توجهت إلى سالم .. أخبرته أني مسافر .. ضمني بذراعيه الصغيرين مودعاً ..
    تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف ..
    كنت خلال تلك الفترة أتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي .. اشتقت إليهم كثيراً .. آآآه كم اشتقت إلى سالم !!
    تمنّيت سماع صوته .. هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت ..
    إمّا أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم ..
    كلّما حدّثت زوجتي عن شوقي إليه .. كانت تضحك فرحاً وبشراً ..
    إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها .. لم أسمع ضحكتها المتوقّعة .. تغيّر صوتها ..
    قلت لها : أبلغي سلامي لسالم .. فقالت : إن شاء الله .. وسكتت ..
    أخيراً عدت إلى المنزل .. طرقت الباب ..
    تمنّيت أن يفتح لي سالم ..
    لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ..
    حملته بين ذراعي وهو يصرخ : بابا .. يابا ..
    لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت ..
    استعذت بالله من الشيطان الرجيم ..
    أقبلت إليّ زوجتي .. كان وجهها متغيراً .. كأنها تتصنع الفرح ..
    تأمّلتها جيداً .. ثم سألتها : ما بكِ؟
    قالت : لا شيء ..
    فجأة تذكّرت سالماً .. فقلت .. أين سالم ؟
    خفضت رأسها .. لم تجب .. سقطت دمعات حارة على خديها ..
    صرخت بها .. سالم .. أين سالم ..؟
    لم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد .. يقول بلثغته : بابا .. ثالم لاح الجنّة .. عند الله..
    لم تتحمل زوجتي الموقف .. أجهشت بالبكاء .. كادت أن تسقط على الأرض .. فخرجت من الغرفة ..
    عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعين ..
    فأخذته زوجتي إلى المستشفى ..
    فاشتدت عليه الحمى .. ولم تفارقه .. حين فارقت روحه جسده ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. الملك ..

    بعض الناس .. تشتاق نفسه إلى الهداية ..
    لكنه يمنعه الكبر من اتباع شعائر الدين ..
    نعم يتكبر عن تقصير ثوبه فوق الكعبين .. وإعفاء لحيته ومخالفة المشركين .. فجمال مظهره أعظم عنده من طاعة ربه ..
    وبعض النساء كذلك .. لا تزال تتساهل بأمر الحجاب .. حرصاً على تكميل زينتها .. وحسن بزتها .. أو تعصي ربها بنتف حاجبها .. أو تضييق لباسها .. وإذا نصحت استكبرت وطغت ..
    ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر .. فكيف إذا كان هذا الكبر مانعاً من الهداية ..
    كان جبلة بن الأيهم ..
    ملكاً من ملوك غسان .. دخل إلى قلبه الإيمان ..
    فأسلم ثم كتب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه .. يستأذنه في القدوم عليه ..
    سرّ عمرُ والمسلمون لذلك سروراً عظيماً ..
    وكتب إليه عمر : أن اقدم إلينا .. ولك مالنا وعليك ما علينا ..
    فأقبل جبلة في خمسمائة فارس من قومه ..
    فلما دنا من المدينة لبس ثياباً منسوجة بالذهب .. ووضع على رأسه تاجاً مرصعاً بالجوهر ..
    وألبس جنوده ثياباً فاخرة ..
    ثم دخل المدينة .. فلم يبق أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان ..
    فلما دخل على عمر رحَّب به وأدنى مجلسه ! ..
    فلما دخل موسم الحج .. حج عمر وخرج معه جبلة ..
    فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل فقير من بني فزارة ..
    فالتفت إليه جبلة مغضباً .. فلطمه فهشم أنفه ..
    فغضب الفزاري .. واشتكاه إلى عمر بن الخطاب ..
    فبعث إليه فقال : ما دعاك يا جبلة إلى أن لطمت أخاك في الطواف .. فهشمت أنفه !
    فقال : إنه وطئ إزاري ؟ ولولا حرمة البيت لضربت عنقه ..
    فقال له عمر : أما الآن فقد أقررت .. فإما أن ترضيه .. وإلا اقتص منك ولطمك على وجهك ..
    قال : يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة !
    قال عمر : يا جبلة .. إن الإسلام قد ساوى بينك وبينه .. فما تفضله بشيء إلا بالتقوى ..
    قال جبلة : إذن أتنصر ..
    قال عمر : من بدل دينه فاقتلوه .. فإن تنصرت ضربت عنقك ..
    فقال : أخّرني إلى غدٍ يا أمير المؤمنين ..
    قال : لك ذلك .. فلما كان الليل خرج جبلةُ وأصحابُه من مكة .. وسار إلى القسطنطينية فتنصّر ..
    فلما مضى عليه زمان هناك ..
    ذهبت اللذات .. وبقيت الحسرات .. فتذكر أيام إسلامه .. ولذة صلاته وصيامه ..
    فندم على ترك الدين .. والشرك برب العالمين ..
    فجعل يبكي ويقول :
    تنصرت الأشراف من عار لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
    تكنفني منها لجاج ونخوة * وبعت لها العين الصحيحة بالعور
    فياليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
    وياليتني أرعى المخاض بقفرة * وكنت أسير في ربيعة أو مضر
    وياليت لي بالشام أدنى معيشة * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
    ثم ما زال على نصرانيته حتى مات ..
    نعم .. مات على الكفر لأنه تكبر عن الذلة لشرع رب العالمين ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. شيخ في مرقص ..

    قال لي :
    كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير .. قضى حياته في الصلاة والتعليم ..
    لاحظ أن عدد المصلين يتناقص .. كان مهتماً بهم .. يشعر أنهم أولاده ..
    ذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم : ما بال أكثر الناس .. خاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه ..
    فأجابه المصلون : إنهم في المراقص والملاهي ..
    قال الشيخ : مراقص !! وما المراقص ؟
    فقال أحد المصلين : المرقص صالة كبيرة فيها خشبة مرتفعة .. تصعد عليها الفتيات يرقصن والناس حولهن ينظرون إليهن ..
    قال الشيخ : أعوذ بالله .. والذين ينظرون إليهن مسلمون ..
    قالوا : نعم ..
    فقال بكل براءة : لا حول ولا قوة إلا بالله .. يجب أن ننصح الناس ..
    قالوا : يا شيخ .. أتعظ الناس وتنصحهم في المرقص ..؟
    فقال نعم .. ثم نهض خارجاً من المسجد .. وهو يقول : هيا بنا إلى المرقص ..
    حاولوا أن يثنوه عن عزمه .. أخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء .. وسينالهم الأذى ..
    فقال : وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم !!
    ثم أمسك الشيخ بيد أحد المصلين .. وقال : دلني على المرقص ..
    مضى الشيخ يمشي .. بكل صدق وثبات ..
    وصلوا إلى المرقص ..
    رآهم صاحب المرقص من بعيد .. ظن أنهم ذاهبين لدرس أو محاضرة ..
    فلما أقبلوا عليه .. تعجب .. فلما توجهوا إلى باب المرقص ..
    سألهم : ماذا تريدون ؟
    قال الشيخ : نريد أن ننصح من في المرقص ..
    تعجب صاحب المرقص .. وأخذ ينظر إليهم .. واعتذر عن قبولهم ..
    أخذ الشيخ يساومه .. ويذكره بالثواب العظيم .. لكنه أبى ..
    فأخذ يساومه بالمال ليأذن لهم .. حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي ..
    فوافق صاحب المرقص .. وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي !
    فلما كان الغد والناس في المرقص ..
    وخشبة المسرح تعج بالمنكرات .. والشياطين تحف الناس وتصفق لهم ..
    وفجأة أسدل الستار ..
    ثم فُتح .. فإذا شيخ وقور يجلس على كرسي ..
    دُهش الناس .. وتعجبوا .. ظن بعضهم أنها فقرة فكاهية ..
    بدأ الشيخ بالبسملة .. والحمد لله .. والثناء عليه .. وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام ..
    ثم بدأ في وعظ الناس ..
    نظر الناس بعضهم إلى بعض .. منهم من يضحك .. ومنهم من ينتقد .. ومنهم من يعلق بسخرية .. والشيخ ماض في موعظته لا يلتفت إليهم ..
    حتى قام أحد الحضور .. وأسكت الناس ..
    وطلب منهم الإنصات ..
    بدأ الهدوء يحيط بالناس .. والسكينة تنزل على القلوب ..
    حتى هدأت الأصوات .. فلا تسمع إلا صوت الشيخ ..
    قال كلاماً ما سمعوه من قبل ..
    آيات تهز الجبال .. وأحاديث وأمثال .. وقصص لتوبة بعض العصاة ..
    وأخذ يدافع عبراته ويقول ..
    يا أيها الناس .. إنكم عشتم طويلاً .. وعصيتم الله كثيراً ..
    فأين ذهبت لذة المعصية .. لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء ..
    ستسألون عنها يوم القيامة ..
    سيأتي يوم يفنى فيه كل شيء إلا الله الواحد القهار ..
    أيها الناس .. هل نظرتم إلى أعمالكم .. والى أين ستؤدّي بكم ..
    إنكم لا تتحملون النار في الدنيا .. وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ..
    فبادروا بالتوبة قبل فوات الأوان ..
    وبدا الشيخ متأثراً وهو يعظ .. كانت كلماته قد خرجت من القلب .. فوصلت إلى القلب ..
    بكى الناس .. فزاد في موعظته .. ثم دعا لهم بالرحمة والمغفرة .. وهم يرددون : آمين .. آمين ..
    ثم قام من على كرسيه .. تجلله المهابة والوقار ..
    وخرج الجميع وراءه .. - نعم الجميع - ..
    وكانت توبتهم على يده .. عرفوا سرَّ وجودهم في الحياة .. وما تغني عنهم الرقصات واللذات .. إذا تطايرت الصحف وكبرت السيئات ..
    حتى صاحب المرقص .. تاب وندم على ما كان منه ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. الشيخ الضال ..

    أحياناً .. يعرف المرء الحق ويرغب في اتباعه ..
    لكنه يغرى بمتع الدنيا .. فيظل على معصيته ..
    الأعشى بن قيس ..
    كان شيخاً كبيراً شاعراً .. خرج من اليمامة .. من نجد .. يريد النبي عليه الصلاة والسلام .. راغباً في الدخول في الإسلام ..
    مضى على راحلته .. مشتاقاً للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بل كان يسير وهو يردد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :

    ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبت كما بات السليمُ مسهدا
    ألا أيهذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا
    نبي يرى ما لا ترون وذكرُه * أغار لعمري في البلاد وأنجدا
    أجدِّك لم تسمع وصاة محمد * نبيِّ الإله حيث أوصى وأشهدا
    إذ أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
    ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا

    وما زال يقطع الفيافي والقفار..يحمله الشوق والغرام .. إلى النبي عليه الصلاة السلام ..
    راغباً في الإسلام .. ونبذ عبادة الأصنام ..
    فلما كان قريباً من المدينة..اعترضه بعض المشركين فسألهوه عن أمره؟
    فأخبرهم أنه جاء يريد لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم .. فخافوا أن يسلم هذا الشاعر .. فيقوى شأن النبي صلى الله عليه وسلم .. فشاعر واحد وهو حسان بن ثابت قد فعل بهم الأفاعيل .. فكيف لو أسلم شاعر العرب الأعشى بن قيس ..
    فقالوا له : يا أعشى دينك ودين آبائك خير لك ..
    قال : بل دينه خير وأقوم ..
    فنظر بعضهم إلى بعض وجعلوا يتشاورون .. كيف يصدوه عن الدين ..
    فقالوا له : يا أعشى .. إنه يحرم الزنا .. فقال : أنا شيخ كبير .. وما لي في النساء حاجة ..
    فقالوا : إنه يحرم الخمر ..
    فقال : إنها مذهبة للعقل .. مذلة للرجل .. ولا حاجة لي بها ..
    فلما رأوا أنه عازم على الإسلام ..
    قالوا : نعطيك مائةَ بعير وترجع إلى أهلك .. وتترك الإسلام ..
    فجعل يفكر في المال .. فإذا هو ثروة عظيمة .. فتغلب الشيطان على عقله .. والتفت إليهم وقال :
    أما المال .. فنعم ..
    فجمعوا له مائة بعير .. فأخذها .. وارتد على عقبيه .. وكرَّ راجعاً إلى قومه بكفره ..
    واستاق الإبل أمامه .. فرحاً بها مستبشراً ..
    فلما كاد أن يبلغ دياره .. سقط من على ناقته فانكسرت رقبته ومات ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. سارة ..

    الإشارة حمراء .. والطريق مليء بالسيارات .. .لم يتبق على الموعد سوى بضع دقائق ..
    تباً لهذه الإشارة إنها طويلة .. يا ليتني كنت في الصف الأول .. لكنت قطعتها ..
    الثواني تمر بطيئة كأنها دقائق بل ساعات ..
    أنظر إلى الساعة حيناً وإلى الإشارة حيناً آخر ..
    أضاءت الإشارة اللون الأخضر .. ضغطت على منبه السيارة أزعجت الجميع .. تحركت السيارات .. تجاوزت الأول ..كدت اصطدم بالثاني .. قيادتي للسيارة أفزعت من حولي..
    حاولت أن أسرع .. لكنني لم أستطع ..
    مضى الوقت.. وضاع الموعد.. ولم أجد الأصدقاء .. لقد ذهبوا..
    إلى أين أذهب ؟.. احترت في الإجابة .. أطلقت زفرة من صدري .. ياليتني كنت أعرف مكانهم..
    السيارة تمضي بهدوء .. انطلقت أفكر .. أيقظني منبه سيارة أخرى .. نظرت إلى صاحب السيارة بغضب .. وأشرت إليه بيدي .. تمهل الدنيا لن تطير .. ونسيت حالي قبل دقائق..
    قررت أن أقضي السهرة في البيت .. إنها فكرة جيده .. فابنتي الوحيدة مريضة .. والأفضل أن أكون قريباً منها..
    أوقفت السيارة أمام محل الفيديو .. نزلت إلى المحل .. اخترت عدة أفلام .. وانطلقت إلى المنزل..
    فتحت الباب .. ناديت على زوجتي .. احضري الشاهي والمكسرات..
    دخلت إلى الغرفة .. "يالها من زوجة معقدة" .. الآن ستقول لي:"اتق الله يا أحمد".. لقد تعودت على هذه الكلمات حتى تبلدت أحاسيسي نحوها.. لكنها زوجة مطيعة.. طيبة.. تشقى من أجل سعادتي..
    دخلت ومعها الشاهي والمكسرات.. ابتسمت في وجهي .. قالت : لابد أنك سئمت السهر مع أصدقائك وتريد أن تجلس في البيت..
    قلت : نعم .. تعالي واجلسي .. فرِحت وهمت أن تجلس ..
    وقمت أنا إلى جهاز الفيديو والتلفاز .. فانطلقت الموسيقى الصاخبة ..
    أرخت المسكينة رأسها وقالت : اتق الله يا أحمد.. وخرجت تجر أذيال الحسرة والهزيمة.. فهي لا تسمع الموسيقى ..
    ارتفعت الأصوات في الغرفة .. موسيقى .. صراخ .. ضحكات.. وانطلقت أشرب الشاهي .. وأتناول المكسرات .. وعيناي قد تسمرتا في شاشة التلفاز..
    انتهى الشريط الأول .. والشريط الثاني ..
    الساعة تشير إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ..
    فجأة .. مقبض الباب يتحرك ببطء .. صرخت : ماذا تريدين ؟ .. لم أسمع جواباً..
    انفتح الباب.. دخلت ابنتي المريضة ..
    فاجأني الموقف .. سكت برهة ولم أتكلم ..
    اقتربت مني .. نظرت إليَّ بهدوووء .. ثم قالت : اتق الله يا بابا .. اتق الله يا بابا ..
    ثم انصرفت وأغلقت الباب..
    ناديتها .. سارة .. سارة .. لم تجب .. انطلقت خلفها..
    لا أكاد أصدق..هل هذه ابنتي ؟..
    فتحت باب الغرفة.. وجدتها سبقتني إلى فراشها .. ونامت في حضن أُمها.. إنها هي..
    عدت إلى غرفة الجلوس .. أغلقت جهاز الفيديو .. صوت ابنتي يملأ الغرفة .. اتق الله يا بابا .. اتق الله يا بابا ..
    قشعريرة سرت في جسدي .. تصبب العرق من رأسي..
    لا أدري ماذا أصابني ..
    ما عدت أسمع إلا صوتها .. ولا أرى إلا صورتها .. كلماتها اخترقت كل الحواجز الجاثمة على صدري منذ زمن بعيد .. ترك صلاة .. معاصٍ .. دخان .. أفلام خليعة ..
    أيقظتني من الغفلة.. تسارعت نبضات قلبي .. وألقيت بجسدي على الأرض..
    حاولت أن أنام .. لكنني لم أستطع .. مضى الوقت سريعاً ..
    صور من الماضي استعرضتها أمامي .. ومع كل صورة اسمع صوت ابنتي يتردد .. اتق الله .. اتق الله ..
    وهنا .. ارتفع صوت الأذان .. اهتزت جوانحي .. ارتعدت فرائصي ..
    رعشة سرت في أطرافي .. جعل يردد : " الصلاة خيرٌ من النوم " .. قلت : صدقت .. الصلاة خير من النوم .. أوووه .. لقد كنت نائماً كل هذه السنين..
    توضأت وخرجت إلى المسجد .. مشيت في الطريق وكأني لا أعرفه ..
    كأن نسائم الفجر تعاتبني أين أنت ؟ ..
    وطيور السماء تقول : مرحباً بالنائم الذي استيقظ أخيراً..
    دخلت المسجد .. صليت ركعتين .. وجلست اقرأ القرآن ..
    تلعثمت في القراءة ..
    منذ زمن لم أقرأ القرآن ..
    شعرت أن القرآن يسألني : لم هجرتني منذ سنوات .. ألستُ كلام ربك ..
    أخذت أردد في سورة الزمر : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) .. عجباً .. جميعاً .. ما أرحم الله بنا ..
    تمنيت أن استمر في القراءة .. لكن المؤذن .. أقام الصلاة .. تجمدت في مكاني لحظة ثم تقدمت مع الناس .. وقفت في الصف .. وكأنني غريب..
    انتهت الصلاة..جلست في المسجد حتى أشرقت الشمس ..
    عدت إلى البيت.. فتحت باب الغرفة .. ألقيت نظرة على زوجتي وسارة ..
    كانتا نائمتين .. تركتهما وخرجت إلى العمل ..
    ليس من عادتي الذهاب مبكراً إلى العمل ..
    تفاجأ الزملاء بوجودي ..
    انطلقت عبارات التهنئة ممزوجة بالسخرية ..
    لم أبال بما يقولون .. تسمرت عيناي على الباب .. أنتظر قدوم إبراهيم ..
    زميلي في المكتب .. والذي طالما نصحني ..
    إنه شخص طيب الأخلاق .. حسن المعاملة ..
    حضر إبراهيم .. فقمت من مكاني استقبله .. لم يصدق عينيه ..
    سألني : أنت أحمد ؟!!..
    قلت : نعم .. جذبت يده .. وقلت : أريد أن أحدثك ..
    قال : لا بأس .. نتحدث في المكتب .. قلت : لا .. نذهب إلى الاستراحة..
    صمت إبراهيم .. وراح يصغي لكلماتي .. حدثته بحديث البارحة ..
    أمتلأت عيناه بالدموع .. وابتسم ابتسامة عريضه .. قال لي :
    ذاك نور أضاء قلبك فلا تطفئه بظلمة المعاصي..
    كان يوماً حافلاً بالنشاط والجدية .. رغم أني لم أنم منذ البارحة ..
    ابتسامة تعلو وجهي .. تفانٍ في العمل ..
    المراجعون يتجهون نحوي .. يطلبون مني مساعدتهم .. بعضهم قال لي :
    ما هذا النشاط؟!..أجبته : إنها صلاة الفجر في المسجد..
    مسكين إبراهيم .. كان يتحمل العبء الأكبر من العمل .. أما أنا فقد كنت أنام ..
    لم يشتك ولم يتذمر .. ياله من إنسان طيب ..
    نعم إنه الإيمان عندما تخالط حلاوته القلوب..
    مضى الوقت ولم أشعر بالتعب والإرهاق ..
    قال لي إبراهيم : أحمد .. يجب أن تذهب إلى البيت .. فإنك لم تنم منذ البارحة .. وسأقوم بعملك ..
    نظرت إلى الساعة .. لم يبق على أذان الظهر سوى دقائق .. قررت البقاء..
    أذن المؤذن .. فسارعت إلى المسجد .. جلست في الصف الأول ..
    شعرت بالندم على الأيام التي كنت أهرب فيها من العمل وقت الصلاة..
    بعد الصلاة انطلقت إلى البيت ..
    في الطريق انتابني شعور بالقلق .. يا ترى كيف حال سارة ؟..
    شعرت بانقباض .. لا أدري لماذا ؟!
    أحسست أن الطريق هذه المرة طويل .. ازداد الخوف .. رفعت رأسي إلى السماء ..
    دعوت الله أن يعجل بشفاء ابنتي..
    وصلت إلى البيت .. فتحت الباب .. ناديت زوجتي .. لم أسمع جواباً ..
    دخلت الغرفة مسرعاً ..
    زوجتي منطوية على نفسها تبكي ..
    التفتت إليَّ .. صرخت وهي تبكي : لقد ماتت سارة ..
    لم أتبين ما تقول .. اندفعت نحو سارة .. ضممتها إلى صدري ..
    حاولت حملها .. سقطت يدها نحو الأرض .. جسمها بارد ..
    كذلك يداها وقدماها .. نبضها .. أنفاسها .. لم أسمع شيئاً ..
    نظرت إلى وجهها .. نورٌ يتلألأ .. كأنه كوكب دري ..
    ايقظتها .. حركتها .. هززتها ..
    صرخت أمها : سارة .. سارة .. لقد ماتت .. ماتت .. وانخرطت في البكاء..
    لم أصدق ما أرى .. كأنه حلم ..
    انهمرت الدموع من عيني .. أخذت أشهق ..
    أنظر إلى وجهها الجميل .. وشعرها الناعم ..
    أقبِّل فمها الصغير .. كأنها تردد الآن : عيب عليك .. عيب عليك .. يا بابا ..
    تذكرت أن هذه مصيبة .. أخذت أردد .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
    إنا لله وإنا إليه راجعون ..
    اتصلت بإبراهيم .. قلت له : تعال فوراً .. لقد ماتت سارة ..
    النساء في الداخل مع زوجتي يغسلن ابنتي ..
    انتهين من تغسيلها .. لففن على جسدها الطاهر خرقة بيضاء ..
    نادتني زوجتي ..
    دخلت كي أودع سارة الوداع الأخير .. كدت أسقط على الأرض .. تماسكت ..
    قبلتها على جبينها ..
    عاهدتها على الثبات حتى الممات .. نظرت إلى أمها .. فإذا هي زائغة العينين .. شاحبة الوجه .. تنتفض ..
    قلت لها : لا تحزني .. فقد ذهبت إلى الجنة بإذن الله .. هناك سنلتقي .. فشمري كي تشفع لنا ..
    ثم قرأت قوله تعالى : {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ كل امرئٍ بما كسب رهين}..
    بكت الأم وبكيت أنا..
    صلينا عليها صلاة الجنازة .. ثم سرنا بها إلى المقبرة ..
    أنظر إلى الجنازة وكأنني أنظر إلى النور الذي أضاء لي حياتي..
    وصلنا المقبرة .. المكان موحش .. مخيف .. توجهنا إلى القبر ..
    وقفت على شفير القبر .. هنا سأضع ابنتي .. أمسك إبراهيم بكتفي وقال : اصبر يا أحمد..
    نزلت إلى القبر ..
    إنها دارك يا أحمد .. ربما اليوم وربما غداً ..
    ماذا أعددت لهذه الدار ..
    ناداني إبراهيم : أحمد خذ البنت .. وضعتها على صدري .. وددت لو أدفنها فيه ..
    ضممتها .. قبلتها ..
    ثم وضعتها على شقها الأيمن .. وقلت : بسم الله وعلى ملة رسول الله ..
    صففت اللبن .. سددت كل المنافذ ..
    خرجت من القبر .. بدأ الناس يهيلون التراب .. لم أملك دموعي..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. ذكريات تائب ..

    هو شيخ كبير .. نجلس إليه .. بعدما كبر سنه .. ورق عظمه .. وكف بصره ..
    وهو يحكي ذكريات شبابه ..
    نجلس إلى كعب بن مالك رضي الله عنه ..
    وهو يحكي ذكرياته .. في تخلفه عن غزوة تبوك ..
    وكانت آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم ..
    آذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوهم ..
    وجمع منهم النفقات لتجهيز الجيش .. حتى بلغ عدد الجيش ثلاثين ألفاً ..
    وذلك حين طابت الظلال الثمار ..
    في حر شديد .. وسفر بعيد .. وعدو قوي عنيد ..
    وكان عدد المسلمين كثيراً .. ولم تكن أسماؤهم مجموعة في كتاب ..
    قال كعب – كما في الصحيحين - :
    وأنا أيسر ما كنت .. قد جمعت راحلتين .. وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد ..
    وأنا في ذلك أصغي إلى الظلال .. وطيب الثمار ..
    فلم أزل كذلك .. حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً بالغداة ..
    فقلت : أنطلق غدا إلى السوق فأشتري جهازي .. ثم ألحق بهم ..
    فانطلقت إلى السوق من الغد .. فعسر علي بعض شأني .. فرجعت ..
    فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم .. فعسر عليَّ بعض شأني أيضاً ..
    فقلت : أرجع غدا إن شاء الله .. فلم أزل كذلك ..
    حتى مضت الأيام .. وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
    فجعلت أمشي في الأسواق .. وأطوف بالمدينة ..
    فلا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق .. أو رجلاً قد عذره الله ..
    نعم تخلف كعب في المدينة .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى بأصحابه الثلاثين ألفاً ..
    حتى إذا وصل تبوك .. نظر في وجوه أصحابه .. فإذا هو يفقد رجلاً صالحاً ممن شهدوا بيعة العقبة ..
    فيقول صلى الله عليه وسلم : ما فعل كعب بن مالك ؟!
    فقال رجل : يا رسول الله .. خلفه برداه والنظر في عطفيه ..
    فقال معاذ بن جبل : بئس ما قلت .. والله يا نبي الله ما علمنا عليه إلا خيراً ..
    فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
    قال كعب :
    فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك .. وأقبل راجعاً إلى المدينة .. جعلت أتذكر .. بماذا أخرج به من سخطه .. وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ..
    حتى إذا وصل المدينة .. عرفتُ أني لا أنجو إلا بالصدق ..
    فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .. فبدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين .. ثم جلس للناس ..
    فجاءه المخلفون .. فطفقوا يعتذرون إليه .. ويحلفون له ..
    وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم .. واستغفر لهم .. ووكل سرائرهم إلى الله ..
    وجاءه كعب بن مالك .. فلما سلم عليه .. نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم .. ثم تبسَّم تبسُّم المغضب ..
    ثم قال له : تعال ..
    فأقبل كعب يمشي إليه .. فلما جلس بين يديه ..
    قال له صلى الله عليه وسلم : ما خلفك .. ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟
    قال : بلى ..
    قال : فما خلفك ؟!
    فقال كعب : يا رسول الله .. إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا .. لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر .. ولقد أعطيت جدلاً ..
    ولكني والله لقد علمت .. أني إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به علي .. ليوشكن الله أن يسخطك علي ..
    ولئن حدثتك حديث صدق .. تجد عليَّ فيه .. إني لأرجو فيه عفوَ الله عني ..
    يا رسول الله .. والله ما كان لي من عذر ..
    والله ما كنت قط أقوى .. ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ..
    ثم سكت كعب ..
    فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه .. وقال :
    أما هذا .. فقد صدقكم الحديث .. فقم .. حتى يقضي الله فيك ..
    فقام كعب يجر خطاه .. وخرج من المسجد .. مهموماً مكروباً .. لا يدري ما يقضي الله فيه ..
    فلما رأى قومه ذلك .. تبعه رجال منهم .. وأخذوا يلومونه .. ويقولون :
    والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط .. قبل هذا .. إنك رجل شاعر ..
    أعجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ..
    هلا اعتذرت بعذر يرضى عنك فيه .. ثم يستغفر لك .. فيغفر الله لك ..
    قال كعب :
    فلم يزالوا يؤنبونني .. حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي ..
    فقلت : هل لقي هذا معي أحد ؟
    قالوا : نعم .. رجلان قالا مثل ما قلت .. فقيل لهما مثل ما قيل لك ..
    قلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع .. وهلال بن أمية ..
    فإذا هما رجلان صالحان قد شهدا بدراً .. لي فيهما أسوة ..
    فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبداً .. ولا أكذب نفسي ..

    * * * * * * * * *
    ثم مضى كعب رضي الله عنه .. حزيناً .. كسير النفس .. وقعد في بيته ..
    فلم يمضِ وقت .. حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام كعب وصاحبيه ..
    قال كعب :
    فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. فجعلت أخرج إلى السوق .. فلا يكلمني أحد ..
    وتنكر لنا الناس .. حتى ما هم بالذين نعرف ..
    وتنكرت لنا الحيطان .. حتى ما هي بالحيطان التي نعرف ..
    وتنكرت لنا الأرض .. حتى ما هي بالأرض التي نعرف ..
    فأما صاحباي فجلسا في بيوتهما يبكيان .. جعلا يبكيان الليل والنهار .. ولا يطلعان رؤوسهما .. ويتعبدان كأنهما الرهبان ..
    وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم .. فكنت أخرج .. فأشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف في الأسواق .. ولا يكلمني أحد ..
    وآتي المسجد فأدخل ..
    وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ..
    فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟
    ثم أصلي قريباً منه .. فأسارقه النظر .. فإذا أقبلت على صلاتي .. أقبل إلي ..
    وإذا التفتُّ نحوه .. أعرض عني ..

    * * * * * * * * *
    ومضت على كعب الأيام .. والآلام تلد الآلام ..
    وهو الرجل الشريف في قومه ..
    بل هو من أبلغ الشعراء .. عرفه الملوك والأمراء ..
    وسرت أشعاره عند العظماء .. حتى تمنوا لقياه ..
    ثم هو اليوم .. في المدينة .. بين قومه .. لا أحد يكلمه .. ولا ينظر إليه ..
    حتى .. إذا اشتدت عليه الغربة .. وضاقت عليه الكربة .. نزل به امتحان آخر :
    فبينما هو يطوف في السوق يوماً ..
    إذا رجل نصراني جاء من الشام ..
    فإذا هو يقول : من يدلني على كعب بن مالك .. ؟
    فطفق الناس يشيرون له إلى كعب .. فأتاه .. فناوله صحيفة من ملك غسان ..
    عجباً !! من ملك غسان ..!!
    إذاً قد وصل خبره إلى بلاد الشام .. واهتم به ملك الغساسنة .. فماذا يريد الملك ؟!!
    فتح كعب الرسالة فإذا فيها ..
    أما بعد .. يا كعب بن مالك .. إنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك ..
    ولست بدار مضيعة ولا هوان .. فالحق بنا نواسك ..
    فلما أتم قراءة الرسالة .. قال رضي الله عنه : إنا لله .. قد طمع فيَّ أهل الكفر ..
    هذا أيضاً من البلاء والشر ..
    ثم مضى بالرسالة فوراً إلى التنور .. فأشعله ثم أحرقها فيه ..
    ولم يلتفت كعب إلى إغراء الملك ..
    نعم فُتح له باب إلى بلاط الملوك .. وقصور العظماء .. يدعونه إلى الكرامة والصحبة ..
    والمدينة من حوله تتجهمه .. والوجوه تعبس في وجهه ..
    يسلم فلا يرد عليه السلام ..
    ويسأل فلا يسمع الجواب ..
    ومع ذلك لم يلتفت إلى الكفار ..
    ولم يفلح الشيطان في زعزعته .. أو تعبيده لشهوته ..
    ألقى الرسالة في النار .. وأحرقها ..

    * * * * * * * * *
    ومضت الأيام تتلوها الأيام .. وانقضى شهر كامل .. وكعب على هذا الحال ..
    والحصار يشتد خناقه .. والضيق يزداد ثقله ..
    فلا الرسول صلى الله عليه وسلم يُمضي .. ولا الوحي بالحكم يقضي ..
    فلما اكتملت أربعون يوماً ..
    فإذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى كعب .. فيطرق عليه الباب ..
    فيخرج كعب إليه .. لعله جاء بالفرج .. فإذا الرسول يقول له :
    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك ..
    قال : أطلقها .. أم ماذا ؟
    قال : لا .. ولكن اعتزلها ولا تقربها ..
    فدخل كعب على امرأته وقال : الحقي بأهلك ..
    فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ..
    وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحبي كعب بمثل ذلك ..
    فجاءت امرأة هلال بن أمية .. فقالت :
    يا رسول الله .. إن هلال بن أمية شيخ كبير ضعيف .. فهل تأذن لي أن أخدمه ..؟
    قال : نعم .. ولكن لا يقربنك ..
    فقالت المرأة : يا نبي الله .. والله ما به من حركة لشيء ..
    ما زال مكتئباً .. يبكي الليل والنهار .. منذ كان من أمره ما كان ..

    * * * * * * * * *
    ومرت الأيام ثقيلة على كعب ..واشتدت الجفوة عليه ..حتى صار يراجع إيمانه ..
    يكلم المسلمين ولا يكلمونه ..
    ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرد عليه ..
    فإلى أين يذهب ..!! ومن يستشير !؟
    قال كعب رضي الله عنه :
    فلما طال عليَّ البلاء .. ذهبت إلى أبي قتادة .. وهو ابن عمي .. وأحب الناس إليَّ .. فإذا هو في حائط بستانه .. فتسورت الجدار عليه ..
    ودخلت .. فسلمت عليه ..
    فوالله ما رد علي السلام ..
    فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
    فسكت ..
    فقلت : يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
    فسكت ..
    فقلت : أنشدك الله .. يا أبا قتادة .. أتعلم أني أحب الله ورسوله ؟
    فقال : الله ورسوله أعلم ..
    سمع كعب هذا الجواب .. من ابن عمه وأحب الناس إليه .. لا يدري أهو مؤمن أم لا ؟
    فلم يستطع أن يتجلد لما سمعه .. وفاضت عيناه بالدموع ..
    ثم اقتحم الحائط خارجاً ..
    وذهب إلى منزله .. وجلس فيه ..
    يقلب طرفه بين جدرانه .. لا زوجة تجالسه .. ولا قريب يؤانسه ..
    وقد مضت عليهم خمسون ليلة .. من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامهم
    ..
    * * * * * * * * *
    وفي الليلة الخمسين .. نزلت توبتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ..
    فقالت أم سلمة رضي الله عنها :
    يا نبي الله .. ألا نبشر كعب بن مالك ..
    قال : إذا يحطمكم الناس .. ويمنعونكم النوم سائر الليلة ..
    فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر .. آذن الناس بتوبة الله علينا ..
    فانطلق الناس يبشرونهم ..
    قال كعب :
    وكنت قد صليت الفجر على سطح بيت من بيوتنا ..
    فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى .. قد ضاقت علي نفسي .. وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت ..
    وما من شيء أهم إليّ .. من أن أموت .. فلا يصلي عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم .. أو يموت .. فأكون من الناس بتلك المنزلة .. فلا يكلمني أحد منهم .. ولا يصلي عليَّ ..
    فبينما أنا على ذلك ..
    إذ سمعت صوت صارخ .. على جبل سلع بأعلى صوته يقول :
    يا كعب بن مالك ! .. أبشر ..
    فخررت ساجداً .. وعرفت أن قد جاء فرج من الله ..
    وأقبل إليَّ رجل على فرس .. والآخر صاح من فوق جبل ..
    وكان الصوت أسرع من الفرس ..
    فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني .. نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه ..
    والله ما أملك غيرهما ..
    واستعرت ثوبين .. فلسبتهما ..
    وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فتلقاني الناس فوجاً .. فوجاً ..
    يهنئوني بالتوبة .. يقولون : ليهنك توبة الله عليك ..
    حتى دخلت المسجد .. فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
    وهو يبرق وجهه من السرور .. وكان إذا سُرَّ استنار وجهه .. حتى كأنه قطعة قمر ..
    فقال لي : أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ..
    قلت : أمن عندك يا رسول الله .. أم من عند الله ؟
    قال : لا .. بل من عند الله .. ثم تلا الآيات ..
    فلما جلست بين يديه ..
    قلت : يا رسول الله ! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله .. وإلى رسوله ..
    فقال : أمسك عليك بعض مالك .. فهو خير لك ..
    فقلت : يا رسول الله ! إن الله إنما نجاني بالصدق .. وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ..
    نعم .. تاب الله على كعب وصاحبيه .. وأنزل في ذلك قرءاناً يتلى ..
    فقال عز وجل :
    { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. في بطن الحوت ..

    كل الناس يذكرون الله عند الشدائد ..
    لكن منهم من يذكره ويطيعه .. فإذا زالت الشدة عصاه ونساه ..
    ومنهم من يستمر صلاحه وتوبته ..
    يونس عليه السلام .. دعا قومه إلى الإيمان .. فأعرضوا وتكبروا .. فغضب .. وركب البحر مع سفينة .. فلما ثقلت بهم خافوا أن يغرقوا جميعاً .. فعلموا أنه لا بد أن يخففوا الحمل بإلقاء أحد ركابها إلى البحر .. عملوا القرعة مراراً فوقعت على يونس .. ألقوه في البحر .. فالتقمه الحوت .. ثم نزل به إلى الأعماق ..
    كل شيء حدث بسرعة .. يونس في الظلمات ..
    تسمع حوله .. فإذا به يسمع تسبيح الحصى الذي في قعر البحر ..
    فانتفض .. ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ..
    فقرعت كلماته أبواب السماء .. فنزل عليه الفرج ..
    هذا خبر يونس النبي عليه الصلاة والسلام ..
    أما يونس اليوم فيقول :
    كنت شاباً أظن أن الحياة .. مال وفير .. وفراش وثير .. ومركب وطيء ..
    وكان يوم جمعة .. جلست مع مجموعة من رفقاء الدرب على الشاطئ ..
    وهم كالعادة مجموعة من القلوب الغافلة ..
    سمعت النداء حي على الصلاة .. حي على الفلاح ..
    أقسم أني سمعت الأذان طوال حياتي .. ولكني لم أفقه يوماً معنى كلمة فلاح ..
    طبع الشيطان على قلبي .. حتى صارت كلمات الأذان كأنها تقال بلغة لا أفهمها ..
    كان الناس حولنا يفرشون سجاداتهم .. ويجتمعون للصلاة ..
    ونحن كنا نجهز عدة الغوص وأنابيب الهواء ..
    استعداداً لرحلة تحت الماء..
    لبسنا عدة الغوص .. ودخلنا البحر .. بعدنا عن الشاطئ ..
    حتى صرنا في بطن البحر ..
    كان كل شيء على ما يرام .. الرحلة جميلة ..
    وفي غمرة المتعة .. فجأة تمزقت القطعة المطاطية التي يطبق عليها الغواص بأسنانه وشفتيه لتحول دون دخول الماء إلى الفم .. ولتمده بالهواء من الأنبوب .. وتمزقت أثناء دخول الهواء إلى رئتي .. وفجأة أغلقت قطرات الماء المالح المجرى التنفسي... وبدأت أموت ..
    بدأت رئتي تستغيث وتنتفض .. تريد هواء .. أي هواء ..
    أخذت اضطرب .. البحر مظلم .. رفاقي بعيدون عني ..
    بدأت أدرك خطورة الموقف .. إنني أموت ..
    بدأت أشهق .. وأشرق بالماء المالح..
    بدأ شريط حياتي بالمرور أمام عيني ..
    مع أول شهقة .. عرفت كم أنا ضعيف ..
    بضع قطرات مالحة سلطها الله علي ليريني أنه هو القوي الجبار ..
    آمنت أنه لا ملجأ من الله إلا إليه... حاولت التحرك بسرعة للخروج من الماء .. إلا أني كنت على عمق كبير ..
    ليست المشكلة أن أموت .. المشكلة كيف سألقى الله ؟!
    إذا سألني عن عملي .. ماذا سأقول ؟
    أما ما أحاسب عنه .. الصلاة .. وقد ضيعتها ..
    تذكرت الشهادتين .. فأردت أن يختم لي بهما ..
    فقلت أشهـ .. فغصَّ حلقي .. وكأن يداً خفية تطبق على رقبتي لتمنعني من نطقها ..
    حاولت جاهداً .. أشهـ .. أشهـ .. بدأ قلبي يصرخ : ربي ارجعون .. ربي ارجعون .. ساعة .. دقيقة .. لحظة .. ولكن هيهات..
    بدأت أفقد الشعور بكل شيء .. أحاطت بي ظلمة غريبة ..
    هذا آخر ما أتذكر ..
    لكن رحمة ربي كانت أوسع ..
    فجأة بدأ الهواء يتسرب إلى صدري مرة أخرى ..
    انقشعت الظلمة .. فتحت عيني .. فإذا أحد الأصحاب ..
    يثبت خرطوم الهواء في فمي ..
    ويحاول إنعاشي .. ونحن مازلنا في بطن البحر ..
    رأيت ابتسامة على محياه .. فهمت منها أنني بخير ..
    عندها صاح قلبي .. ولساني .. وكل خلية في جسدي ..
    أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمد رسول الله .. الحمد لله ..
    خرجت من الماء .. وأنا شخص أخر ..
    تغيرت نظرتي للحياة ..
    أصبحت الأيام تزيدني من الله قرباً .. أدركت سرَّ وجودي في الحياة .. تذكرت قول الله ( إلا ليعبدون ) ..
    صحيح .. ما خلقنا عبثاً ..
    مرت أيام .. فتذكرت تلك الحادثة ..
    فذهبت إلى البحر .. ولبست لباس الغوص ..
    ثم أقبلت إلى الماء .. وحدي وتوجهت إلى المكان نفسه في بطن البحر ..
    وسجدت لله تعالى سجدة ما أذكر اني سجدت مثلها في حياتي ..
    في مكان لا أظن أن إنساناً قبلي قد سجد فيه لله تعالى ..
    عسى أن يشهد علي هذا المكان يوم القيامة فيرحمني الله بسجدتي في بطن البحر ويدخلني جنته اللهم أمين ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    وغدراتي وفجراتي !!

    ربنا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ..
    ومن سعة رحمته .. أنه عرض التوبة على كل أحد ..
    مهما أشرك العبد وكفر .. أو طغى وتجبر ..
    فإن الرحمة معروضة عليه .. وباب التوبة مشرع بين يديه ..
    وانظر إلى ذاك الشيخ الهرم .. الذي .. كبر سنه .. وانحنى ظهره .. ورق عظمه ..
    أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو جالس بين أصحابه يوماً ..
    يجر خطاه .. وقد سقط حاجباه على عينيه .. وهو يدّعم على عصا ..
    جاء يمشي .. حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال بصوت تصارعه الآلام ..
    يا رسول الله .. أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها .. فلم يترك منها شيئاً ..
    وهو في ذلك لم يترك حاجة .. ولا داجة .. أي صغيرة ولا كبيرة .. إلا أتاها ..
    لو قسّمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم .. فهل لذلك من توبة ؟
    فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره إليه .. فإذا شيخ قد انحنى ظهره .. واضطرب أمره ..
    قد هده مر السنين والأعوام .. وأهلكته الشهوات والآلام ..
    فقال له صلى الله عليه وسلم : فهل أسلمت ؟
    قال : أما أنا .. فأشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
    فقال صلى الله عليه وسلم: تفعل الخيرات .. وتترك السيئات .. فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ..
    فقال الشيخ : وغدراتي .. وفجراتني ..
    فقال : نعم ..
    فصاح الشيخ : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ..
    فما زال يكبر حتى توارى عنهم ..
    الحديث : رواه الطبراني والبزار ، وقال المنذري : إسناده جيد قوي ،وقال ابن حجر هو على شرط الصحيح .


    --------------------------------------------------------------------------------

    هل تطرحه في النار ؟!

    الله أرحم بعباده .. من آبائهم وأمهاتهم ..
    في الصحيحين :
    أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من حرب هوازن .. أُتي إليه بعد المعركة .. بأطفال الكفار ونسائهم .. ثم جمعوا في مكان ..
    فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليهم .. فإذا امرأة من السبي .. أم ثكلى .. تجر خطاها .. تبحث عن ولدها .. وفلذة كبدها ..
    قد اضطرب أمرها .. وطار صوابها .. واشتدّ مصابها ..
    تطوف على الأطفال الرضع .. تنظر في وجوههم .. يكاد ثديها يتفجر من احتباس اللبن فيه ..
    تتمنى لو أن طفلها بين يديها .. تضمه ضمة .. وتشمه شمة .. ولو كلفها ذلك حياتها ..
    فبينما هي على ذلك ..
    إذ وجدت ولدها .. فلما رأته جف دمعها .. وعاد صوابها ..
    ثم انكبت عليه .. وانطرحت بين يديه .. وقد رحمت جوعه وتعبه .. وبكاءه ونصبه ..أخذت تضمه وتقبله ..
    ثم ألصقته بصدرها .. وألقمته ثديها ..
    فنظر الرحيم الشفيق إليها .. وقد أضناها التعب .. وعظم النصب ..
    وقد طال شوقها إلى ولدها .. واشتد مصابه ومصابها ..
    فلما رأى ذلها .. وانكسارها .. وفجيعتها بولدها ..
    التفت إلى أصحابه ثم قال :
    أتُرَون هذه .. طارحة ولدها في النار .. يعني لو أشعلنا ناراً وأمرناها أن تطرح ولدها فيها .. أترون أنها ترضى ..
    فعجب الصحابة الكرام : كيف تطرحه في النار .. وهو فلذة كبدها .. وعصارة قلبها ..كيف تطرحه .. وهي تلثمه .. وتقبله .. وتغسل وجهه بدموعها .. كيف تطرحه ..
    وهي الأم الرحيمة .. والوالدة الشفيقة ..
    قالوا : لا .. والله .. يا رسول الله .. لا تطرحه في النار .. وهي تقدر ع


    عدل سابقا من قبل روح القصيد في الثلاثاء أكتوبر 18, 2011 10:39 am عدل 1 مرات
    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
    روح القصيد
    الاداره
    روح القصيد


    انثى عدد المساهمات : 225
    تاريخ التسجيل : 28/01/2011

    في بطن الحوت .. مجموعة قصص  Empty
    مُساهمةموضوع: رد: في بطن الحوت .. مجموعة قصص    في بطن الحوت .. مجموعة قصص  Icon_minitimeالثلاثاء أكتوبر 18, 2011 10:38 am

    في بطن الحوت .. مجموعة قصص (2)


    خرج منه فروحي ..
    وأما المرأة التي أدخلتني فيها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها ..
    وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجتهد أن يصيبه من الشهادة ما أصابني ..
    فقتل رضي الله عنه شهيداً باليمامة .. وجرح ابنه جراحه شديدة .. لكنه نجى من الموت ..
    ثم استشهد في معركة اليرموك زمن عمر رضي الله عنه ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    يرى مقعده في الجنة !!

    شاب .. بلغ من عمره ستة عشر عاماً .. كان في المسجد يتلو القرآن .. وينتظر إقامة صلاة الفجر ..
    فلما أقيمت الصلاة .. رد المصحف إلى مكانه .. ثم نهض ليقف في الصف ..
    فإذا به يقع على الأرض فجأة مغمى عليه ..
    حمله بعض المصلين إلى المستشفى ..
    فحدثني الدكتور الجبير الذي عاين حالته .. قال :
    أُتي إلينا بهذا الشاب محمولاً كالجنازة .. فلما كشفت عليه فإذا هو مصاب بجلطة في القلب .. لو أصيب بها جمل لأردته ميتاً ..
    نظرت إلى الشاب فإذا هو يصارع الموت .. ويودع أنفاس الحياة ..
    سارعنا إلى نجدته وتنشيط قلبه ..
    أوقفت عنده طبيب الإسعاف يراقب حالته .. وذهبت لإحضار بعض الأجهزة لمعالجته ..
    فلما أقبلت إليه مسرعاً .. فإذا الشاب متعلق بيد طبيب الإسعاف ..
    والطبيب قد الصق أذنه بفم الشاب .. والشاب يهمس في أذنه بكلمات.. فوقفت أنظر إليهما .. لحظات..
    وفجأة أطلق الشاب يد الطبيب .. وحاول جاهداً أن يلتفت لجانبه الأيمن ..
    ثم قال بلسان ثقيل : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وأخذ يكررها .. ونبضه يتلاشى .. وضربات القلب تختفي.. ونحن نحاول إنقاذه.. ولكن قضاء الله كان أقوى..
    ومات الشاب..
    عندها انفجر طبيب الإسعاف باكياً.. حتى لم يستطع الوقوف على قدميه..
    فعجبنا وقلنا له : يا فلان !.. ما لك تبكي !!.. ليست هذه أول مرة ترى فيها ميتاً..
    لكن الطبيب استمر في بكائه ونحيبه..
    فلما خف عنه البكاء .. سألناه : ماذا كان يقول لك الفتى ؟
    فقال : لما رآك يا دكتور .. تذهب وتجيء .. وتأمر وتنهى.. علم أنك الطبيب المختص به .. فقال لي :
    يا دكتور .. قل لصاحبك طبيب القلب.. لا يتعب نفسه.. لا يتعب.. أنا ميت لا محالة .. والله إني أرى مقعدي من الجنة الآن ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. على فراش الموت ..

    كتبت إليَّ :
    ما من يوم يمر علي إلا وأبكي ..
    كل يوم يمر أفكر فيه بالانتحار مرات ..
    لم تعد حياتي تهمني أبدا .. أتمنى الموت كل ساعة ..
    ليتني لم أولد ولم أعرف هذه الدنيا ..

    بدايتي كانت مع واحدة من صديقاتي القليلات ..
    دعتني ذات يوم إلى بيتها .. وكانت من الذين يستخدمون الإنترنت كثيراً .. وقد أثارت في الرغبة لمعرفة هذا العالم ..
    لقد علمتني كيف يستخدم .. وكل شيء تقريباً على مدار شهرين .. حيث بدأت أزورها كثيراً ..
    تعلمت منها "التشات" بكل أشكاله ..
    تعلمت منها كيفية التصفح .. وبحث المواقع الجيدة والرديئة ..
    في خلال هذين الشهرين كنت في عراك مع زوجي كي يدخل الإنترنت في البيت ..
    وكان ضد تلك المسألة .. حتى أقنعته بأني أشعر بالملل الشديد .. ونحن نسكن بعيداً عن أهلي ..
    تحججت بأن كل صديقاتي يستخدمن الإنترنت .. فلم لا أستخدمه وأحادثهن من خلاله فهو أرخص من فاتورة الهاتف على أقل تقدير ..
    وافق زوجي .. ويا ليته لم يفعل ..
    أصبحت بشكل يومي أحادث صديقاتي ..
    بعدها أصبح زوجي لا يسمع مني أي شكوى أو مطالب ..
    أعترف بأنه ارتاح كثيراً من إزعاجي وشكواي ..
    كان كلما خرج من البيت أقبلت كالمجنونة على الإنترنت بشغف شديد ..
    أجلس أقضي الساعات الطوال ..
    بدأت أتمنى غيابه كثيراً .. وقد كنت اشتاق إليه حتى بعد خروجه بقليل ..
    أنا أحب زوجي بكل ما تعني هذه الكلمة .. وهو لم يقصر معي ..
    حتى وحالته المادية ليست بالجيدة مقارنة بأخواتي وصديقاتي .. إلا أنه كان بدون مبالغة يبذل لإسعادي بأي طريقة ..
    ومع مرور الأيام وجدت الإنترنت تسعدني أكثر فأكثر .. أصبحت لا أهتم حتى بالسفر إلى أهلي .. وقد كنا كل أسبوعين نسافر لنرى أهلي وأهله ..
    كان كلما دخل البيت فجأة ارتبكت فأطفئ كل شيء عندي بشكل جعله يستغرب فعلي ..
    لم يكن عنده شك .. بل كان يريد أن يرى ماذا أفعل في الإنترنت ..
    ربما كان لديه فضول .. أو هي الغيرة .. حيث قد رأى يوما محادثة صوتية لم أستطع إخفائها..
    بعدها كان يعاتبني ويقول : الإنترنت مجال واسع للمعرفة .. وليس مضيعة وقت ..
    مرت الأيام وأنا أزداد بالتشات فتنة ..
    تركت مسألة تربية الأبناء للخادمة ..
    كنت أعرف متى يعود .. فأطفئ الجهاز قبل مجيئه ..
    ومع ذلك أهملت نفسي كثيراً .. كنت في السابق أكون في أحسن شكل .. وأجمل زينة عند عودته من العمل ..
    وبعد الإنترنت بدأ هذا يتلاشى حتى اختفى كلياً ..
    كنت مشغوفة بالإنترنت .. لدرجت أني أذهب خلسة بعد نومه .. وأرجع خلسة قبل أن يصحو من النوم ..
    ربما أدرك لاحقا أن كل ما أفعله في الإنترنت هي مضيعة وقت ولكن كان يشفق علي من الوحدة وبعد الأهل وقد استغللت هذا أحسن استغلال ..
    كان منزعجا لإهمالي الأولاد ..
    وبخني كثيراً .. وكنت أتظاهر بالبكاء .. وأقول أنت لا تعرف ماذا يدور في البيت في غيبتك .. فأنا مهتمة بهم حريصة عليهم .. لكنهم يتعبوني ..
    باختصار أهملت كل شيء .. حتى زوجي .. كنت أهاتفه عشرات المرات وهو خارج البيت فقط أريد سماع صوته .. والآن وبعد الإنترنت أصبح لا يسمع صوتي أبداً إلا في حالة احتياج البيت لبعض الطلبات النادرة ..
    تولدت لدى زوجي غيرة كبيرة من الإنترنت ..
    مر عليَّ ستة أشهر على هذا الحال ..
    بنيت علاقات مع أسماء مستعارة لا أعرف إن كانت لرجل أم أنثى ..
    كنت أحاور كل من يحاورني عبر التشات ..
    حتى وأنا أعرف أن الذي يحاورني رجل ..
    إلا أن شخصاً واحداً هو الذي أقبلت عليه بشكل كبير ..
    أحببت حديثه ونكته .. كان مسلياً .. بدأت العلاقة بيننا تقوى مع الأيام ..
    تكونت هذه العلاقة اليومية في خلال 3 أشهر تقريبا ..
    كان يغمرني بكلامه المعسول .. وكلمات الحب والشوق ..
    ربما لم تكن كلماته جميلة إلى هذه الدرجة .. ولكن الشيطان جمّلها بعيني كثيراً .. كانت محاثاتنا كلها كتابة .. عبر " التشات " ..
    في يوم من الأيام طلب سماع صوتي .. فرفضت .. أصر على طلبه .. هددني بتركي وأن يتجاهلني في التشات والإيميل ..
    حاولت كثيرا مقاومة هذا الطلب ولم أستطع .. لا أدري لماذا ..
    حتى قبلت مع بعض الشروط .. أن تكون مكالمة واحدة فقط ..
    استخدمنا برنامجا للمحادثة الصوتية .. رغم أن البرنامج ليس بالجيد .. ولكن كان صوته جميلا جدا وكلامه عذب جدا ..
    قال لي : صوتك غير واضح عبر الانترنت .. أعطيني رقم هاتفك ..
    رفضت ذلك .. تعجبت من جرأته .. لم أجرؤ على مكالمته لمدة طويلة ..
    كنت أعلم والله أن الشيطان الرجيم كان يلازمني ويحسن صوته في نفسي ويصارع بقايا العفة والدين وما أملك من أخلاق ..
    حتى أتى اليوم الذي كلمته من الهاتف ..
    ومن هنا بدأت حياتي بالانحراف .. لقد انجرفت كثيرااااااا ..
    أصبحنا كالجسد الواحد .. نستخدم "التشات" ونحن نتكلم عبر الهاتف ..
    لن أطيل الكلام ..
    من يقرا قصتي يشعر بأن زوجي مهمل في حقي .. أو كثير الغياب عن البيت ..
    ولكن العكس هو الصحيح .. كان يخرج من عمله ولا يذهب إلى أصدقائه كثيراً من أجلنا أنا وأولادي ..
    ومع مرور الأيام وبعد اندماجي بالإنترنت والتي كنت أقضي بها ما يقارب 8 إلى 12 ساعة يومياً .. أصبحت أكره كثرة تواجده في البيت .. ألومه على هذا كثيراً ..
    أشجعه بأن يعمل في المساء حتى نتخلص من الديون المتراكمة والأقساط التي لا تريد أن تنتهي ..
    وفعلا أخذ بكلامي .. ودخل شريكاً مع أحد أصدقائه في مشروع صغير ..
    بعد ذلك .. أصبح الوقت الذي أقضيه في الإنترنت أكثر وأكثر ..
    رغم انزعاجه كثيرا من فاتورة الهاتف والتي تصل إلى الآلاف أحياناً .. إلا أنه لم يقدر على صدي عن هذا أبدا ..
    بدأت علاقتي بصاحبي تتطور ..
    أصبح يطلب رؤيتي بعدما سمع صوتي مراراً .. بل ربما مل منه ..
    لم أكن أبالي كثيراً أو أحاول قطع اتصالي به ..
    بل كنت فقط أعاتبه على طلبه .. وربما كنت أكثر منه شوقاً إلى رؤيته ..
    لكني كنت أترفع عن ذلك .. لا لشيء .. سوى أنني خائفة ..
    أصبح إلحاحه يزداد يوماً بعد يوم .. يريد فقط رؤيتي لا أكثر ..
    قبلت طلبه بشرط أن تكون أول وآخر مرة نتقابل فيها ..
    تواعدنا ثم التقينا في أحد الأسواق وكان الشيطان ثالثنا ..
    في الحقيقة من أول نظرة أعجبني .. بل زيَّنه الشيطان في عيني ..
    لم يكن زوجي قبيحاً .. لكن الشيطان يزين الحرام ..
    افترقنا .. بدأ بعدها يقوي علاقته بي ..
    لم يكن يعرف أني متزوجة .. وأم أولاد ..
    رآني بعدها مراراً .. عرف عني كل شيء ..
    جعلني أكره زوجي ..
    عرض علي الطلاق من زوجي لأتزوجه ..
    بدأت أكره زوجي .. بدأت اصطنع معه المشاكل كل يوم ليطلقني ..
    لم يحتمل زوجي هذه المشاكل التافهة .. و بدأ يكثر الغياب عن البيت ..
    حتى وقعت الكارثة ..
    قال زوجي إنه ذاهب في رحلة عمل لمدة خمسة أيام ..
    عرض عليَّ أن أذهب مع الأولاد إلى أهلي ..
    أحسست أن هذا هو الوقت المناسب ..
    رفضت الذهاب لأهلي ..
    فوافق مضطرا وذهب مسافراً في يوم الجمعة ..
    وفي يوم الأحد كان الموعد ..
    اتفقت مع الشيطان أن أقابله في مكان بأحد الأسواق ..
    ركبت سيارته ثم أنطلق يجوب الشوارع ..
    أول مرة في حياتي أخرج مع رجل غريب ..
    كان يبدو عليه القلق أكثر مني ..
    قلت له : لا أريد أن يطول وقت خروجي من البيت .. أخشى أن يتصل زوجي أو يحدث شيء ..
    قال لي : وإذا عرف زوجك .. ربما يطلقك وترتاحين منه ..
    لم يعجبني حديثه و نبرة صوته .. بداء القلق يزداد عندي ..
    قلت له: يجب أن لا تبتعد كثيراً .. لا أريد أن أتأخر عن البيت ..
    بدأ يشغلني بأحاديث جانبية ..
    وفجأة وإذا أنا في مكان لا أعرفه .. مظلم وهي أشبه باستراحة أو مزرعة ..
    بدأت أصرخ به ما هذا المكان ؟ إلى أين تأخذني ؟ ..
    وما هي إلا ثوان معدودات .. وإذا بالسيارة تقف .. ورجل آخر يفتح عليَّ الباب ويخرجني بالقوة .. وثالث داخل الاستراحة .. ورابع رأيته جالساً .. روائح غريبة تنبعث من المكان ..
    كان كل شيء ينزل علي كالصاعقة ..
    صرخت وبكيت واستعطفتهم ..
    أصبحت من شدة الرعب لا أفهم ما يدور حولي ..
    شعرت بضربة كف على وجهي .. وصوت يصرخ علي ..
    فزلزلني زلزالاً فقدت الوعي بعده من شدة الخوف ..
    وقع ما وقع ..
    صحوت بعدها من إغمائي ..
    تملكني رعب شديد .. جسمي يرتعش .. لم أتوقف عن البكاء ..
    ربطوا عيني .. وحملوني إلى السيارة .. ورموني في مكان قريب من البيت ..
    دخلت البيت مسرعة .. بقيت أبكي وأبكي حتى جفت دموعي ..
    أصبحت حبيسة غرفتي .. لم أر أبنائي .. ولم أدخل في فمي لقمة ..
    كرهت نفسي .. حاولت الانتحار ..
    أبنائي لم أعد أعرفهم .. أو أشعر بوجودهم ..
    رجع زوجي من السفر .. كانت حالتي سيئة لدرجة أنه أخذني إلى المستشفى بقوة ..
    أعطوني مهدئات ومقويات ..
    طلبت من زوجي أن يأخذني إلى أهلي بأسرع وقت ..
    كنت أبكي كثيراً ..وأهلي لا يعلمون شيئاً ..يعتقدون أن هنالك مشكلة بيني وبين زوجي..
    حاول أبي أن يتفاهم مع زوجي ..ولم يصل معه إلى نتيجة ..لأن زوجي أصلاً لا يعلم شيئاً..
    لا أحد يعلم ما الذي حل بي .. حتى أن أهلي عرضوني على بعض القراء .. اعتقاداً منهم بأني مريضة ..
    باختصار .. أنا لا أستحق زوجي أبداً ..
    لذا طلبت منه الطلاق .. إكراماً له والله .. فأنا لا أستحق أن أعيش بين الأشراف مطلقاً ..
    أنا التي حفرت قبري بيدي .. وصديق "التشات" لم يكن سوى صائد لفريسة من البنات الّلواتي يستخدمن التشات ..
    حزن زوجي لحالي .. بل ترك عمله أياماً ليكون قريباً مني .. رفض أن يطلقني .. كان المسكين يحبني .. تعب حتى كون أسرة وبيتاً ولا يريد أن يهدمه ..
    كتمت سرّي في صدري .. وكل يوم يمر بي أزداد قهراً على قهري .. أي ذلٍ أصابني من أولئك الأنذال .. كيف أكون مزبلة لشراب خمر ومتعاطي مخدرات يعبثون بجسدي كما شاءوا .. كم كنت غبية حمقاء .. كيف أمضيت أشهراً في صرف عواطفي لمن لا يستحقها ..
    وها أنا أكتب هذه القصة من على فراش المرض والهزال .. بل لعله يكون فراش الموت ..


    --------------------------------------------------------------------------------

    .. اتخذوه مهجوراً ..

    قالت :
    كنت في الحرم المكي .. في قسم النساء .. وإذا بامرأة تطرق على كتفي .. وتردد بلكنة أعجمية : يا حاجة !! يا حاجة !!..
    إلتفت إليها .. فإذا امرأة متوسطة السن .. غلب على ظني أنها تركية ..
    سلمت علي .. وقعت في قلبي محبتها !
    سبحان الله الأرواح جند مجندة ..
    كانت تريد أن تقول شيئاً .. تحاول استجماع كلماتها ..
    أشارت إلى المصحف الذي كنت أحمله .. ثم قالت بعربية مكسرة :
    أنت تقرأ في قرآن ..؟!
    قلت : نعم ! .. وإذا بالمرأة ..
    يحمر وجهها .. وتمتلئ عيناها بالدموع ..
    قد هالني منظرها .. بدأت في البكاء !!
    قلت لها : ما بك !؟
    قالت بصوت مخنوق وهي تنظر بخجل ..
    قالت : أنا ما أقرأ قرآن ..
    قلت : لماذا ؟
    قالت : ما أعرف .. ومع انتهاء حرف الفاء .. انفجرت باكية ..
    ظللت أربت على كتفيها وأهديء من روعها ..
    قلت : أنت الآن في بيت الله .. اسأليه أن يعلمك .. وأن يعينك على قراءة القرآن ..
    كفكفت دموعها ..
    وفي مشهد لن أنساه ما حييت .. رفعت المرأة يديها تدعو الله قائلة : اللهم افتح قلبي .. اللهم افتح قلبي أقرأ قرآن .. اللهم افتح قلبي أقرأ قرآن ..
    ثم التفتت إليَّ وقالت : أنا أموت وما قرأت قرآن ..
    قلت لها : لا.. إن شاء الله سوف تقرأينه كاملاً وتختميه مرات ومرات ..
    سألتها : هل تقرأين الفاتحة ؟
    فاستبشرت .. وقالت : نعم ..
    ثم بدأت ترتل : الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم ..
    حتى ختمتها ..
    ثم جلست تعدد صغار السور التي تحفظها ..
    كنت متعجبة من عربيتها الجيدة إلى حد ما.. وهي تتكلم عن حياتها .. وما تبذله لتتعلم القرآن ..
    وفجأة تغير وجهها .. وقالت : إذا أنا أموت ما قرأت قرآن .. أنا في نار !!
    أنا والله أسمع شريط .. بس لازم في قراءة !!
    هذا كلام الله .. كلام الله العظيم ! وبدأت المسكينة تدافع عبراتها وهي تتكلم عن عظمة الله .. وحق كتابه علينا ..
    لم أتمالك نفسي من البكاء ! امرأة أعجمية .. في بلاد علمانية .. تخشى أن تلقى الله ولم تقرأ كتابه ..
    منتهى أملها في الحياة أن تختم القرآن ..
    تبكي .. وتحزن .. وتضيق عليها نفسها .. لأنها لا تستطيع تلاوة كتاب الله ..
    فما بالنا قد هجرناه ؟
    قد أوتيناه فنسيناه ؟
    ما بالنا والسبل ميسرة لحفظه وتلاوته وفهمه ؟
    بالله .. على أي شيء تحترق قلوبنا ؟ وما الذي يثير مدامعنا ويهيج أحزاننا ؟

    الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
     
    في بطن الحوت .. مجموعة قصص
    الرجوع الى أعلى الصفحة 
    صفحة 1 من اصل 1

    صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
    منتديات خليجنا واحد :: ★★★منتديات خليجنا واحد للقصص ★★★ :: ★★ قصـــص مـــؤثـــره ★★-
    انتقل الى: