الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
وبعد:
فقد أرسل لي أحد الفضلاء - جزاه الله خيراً - نسخة من كتاب للشيخ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالفتاح القارئ بعنوان ((الآثار النبوية في المدينة المنورة وجوب المحافظة عليها وجواز التبرك بها)) مكتوب عليه: (وقف لله تعالى 1427هـ)، فشدني عنوانه وبخاصة قوله (وجواز التبرك بها)، فقرأته على عجل، وشدني أكثر تفسيره للآثار النبوية: بالآثار النبوية المكانية، فعدت له ثانية بعد أيام لأسجل هذه الملاحظات والوقفات مع الكتاب، ولو فسح الله في الوقت والعمر فسأفرد لهذا الموضوع كتاباً مستقلاً.
يقع الكتاب في خمسٍ وسبعين صفحة من الحجم المتوسط بدأه الشيخ بتقسيم الآثار إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول:
آثار تاريخية كأنواع المباني والأواني والنقود القديمة وهذا جعله الشيخ من اهتمام دارسي التاريخ والحضارة.
الصنف الثاني:
آثار خرافية كالقبور والأضرحة. وهذا استنكره المؤلف ودعا لمحاربته - جزاه اللهُ خيراً -
الصنف الثالث:
آثار إسلامية نبوية وهذه يرى وجوب المحافظة عليها وجواز التبرك بها كما هو صريح عنوان الكتاب.
وذكر للمحافظة على هذا الصنف أربع فوائد: الاعتبار بها، والتبرك بها، وأنها تساعد على دراسة السيرة النبوية، وأنها زينة للمدينة.
وهذه الورقات تناقش المؤلف في دعواه جواز التبرك بهذا الصنف من الآثار - وليس معنى هذا أني أوافقه فيما عدا ذلك -
فدعوى الشيخ إذن: وجوب المحافظة على هذه الآثار من أجل التبرك بها.
هذا، وقد استدل المؤلف - عفا الله عنه - على دعواه تلك بأدلة، لا تنهض للدلالة على تلك الدعوى بحال، ولذا أرى لزاماً بيان سرِّ الخلط الذي وقع بسببه الشيخ ومن سبقه، ذلكم هو عدم التفريق بين التبرك والتعبد، أو قل بين التبرك من جهة، وبين الاقتداء والذي منه شدة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى، وكذا عدم التفريق بين آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي هي جزءٌ منه كنخامته، وشعره، أو ما لامس جسده الشريف الطاهر كماء وضوئه، وملابسه، ورمانة منبره التي كان يمسك بها أثناء الخطبة، عدم التفريق بين هذه الآثار وبين الأماكن التي جلس عليها أو صلى فيها، أو مرَّ بها.
أمَّا آثاره صلى الله عليه وسلم سواءً كانت جزءاً منه ثم انفصلت عنه، أو خارجةً عنه لكنها لامست جسده الطاهر، فهذه هي التي كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بها دون توسع، وربما استمر الأمر على ذلك سنوات معدودات ممن أتى بعدهم، ثم انقرضت الآثار وانقرض تبعًا لذلك هذا التبرك، أما تلك الأماكن التي جلس عليها أو صلى فيها ثم بمرور الزمن اندرس منها ما لامس جسده الشريف وبقيت البقعة المكانية كما هي، فهذه هي التي وقع فيها الخلط عند المؤلف كما هو الحال عند غيره، ولذا عدَّها بعضُ الخلف مما يُتبرك به.
والتبرك معناه: طلب البركة، وهي زيادة الخير، ويكون بالأعمال كالصلاة والصيام والصدقة وكل أمر شرعه الله ففيه بركة الأجر والثواب، ويكون بالذوات وآثارها، وقد تقدم أن ما كان بذات النبي صلى الله عليه وسلم وما لامسها أنه جائز، والشيخ في كتابه هذا إنما يعني التبرك بالذوات سواءً لامست جسده أم لا، ولذا ذكر جواز التبرك بالمكان في الصفحات: (25،24،23،16)، وجواز التبرك بالمواضع والآثار ذكره صفحة (17)، والتبرك بالمسح على رمانة المنبر ذكره صفحة: (13 و 25)، ومما يدل على أنَّ الشيخ - عفا الله عنه - يخلط بين هذين المعنيين ما قاله عن قول عتبان رضي الله عنه لما طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته: ((فأتخذه مصلى)) - وسيأتي الكلام عنه - ، قال عنه تارة (ص15): ((ومعنى قول عتبان هذا: لأتبرك بالصلاة في المكان الذي ستصلي فيه)) وقال (ص23): ((أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم عتبان على التبرك بالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم )) فهو تارة يجعل التبرك بالصلاة وتارة يجعله بالمكان.
وقد استدل الشيخ على صحة دعواه بستة أدلة:
الأول:
حديث عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه وطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى ففعل عليه الصلاة والسلام ، والحديث في الصحيحين.
الثاني:
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأنه كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عندها. والحديث في الصحيحين.
الثالث:
تحري الصحابة رضي الله عنهم الصلاة عند أسطوانة عائشة رضي الله عنها . وهو حديث منكر سيأتي الكلام عنه.
الرابع:
حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ، وأنه كان يأتي مسجد الفتح ويدعو عنده، وسيأتي الكلام عنه.
الخامس:
ما ورد من تتبع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما للأماكن النبوية تبركاً بها.
السادس:
ما نُقل عن بعض أئمة السلف، كمالك وأحمد والبخاري.
يتبع ...